توثيق التراث الشفهي السوداني- 1
معتصم الحارث الضوّي
7 مايو 2020
المكان الحصاحيصا، والزمان النصف الثاني من السبعينيات.
كان كاتب هذه السطور يشتري دفاتر زهيدة الثمن ثم يُسرع للجلوس إلى
جدته. كانت رحمها الله أُميّة، ولكنها امتازت بذاكرة قوية للغاية.
كانت تشعرُ بالسعادة وهي تُملي على حفيدها قصائد الشاعر ود الفراش، وكثير منها لم يرد في ديوانه كما اتضح حينها، وكانت ترد بصبر على استفساراته بخصوص معاني الكلمات التي اندثرت، وتصف أماكن وأسباب إلقاء القصائد، وأسماء من حضروا.
كانت تستطرد، على الطريقة الجاحظية، وهي تصف الحياة في مطلع القرن
العشرين في بربر، وتورد أسماء الأسر التي قطنت المنطقة، وتتحدث عن الوقائع
الاجتماعية والاقتصادية وعيناها تأتلقان حماسا، وتدقق بوصف السنوات الأوائل من عمر
الاحتلال وكيف تأقلم سكان المدينة إزاءه، وكان لها شغف بالغ بوصف العادات والتقاليد
والأمثال والحكم الشعبية، وتُعرّج بطبيعتها المرحة على الألغاز والفوازير، مستعينة
بذاكرة فولاذية لم تتأثر بكبر السن.
اقفز معي يا عزيزي القارئ إلى مطلع الثمانينيات، وتوجّه معي إلى الكلاكلة، حيث أقام شقيق جدتي رحمه الله، ويبدو أن قوة الذاكرة كانت صفة جينية لدى الأسرة، إذ كان يسرد للكاتب الأحداث الشخصية والعامة التي وقعت في شبابه، ومن ضمنها انتقاله في مطلع العشرينيات إلى مكة المكرمة للإقامة والعمل، وكيف شارك أحد الموسرين في تجارته، والذي أعجب بتدينه وأمانته فعرض عليه أن يُزّوجه إحدى بناته ويستقر عندهم، ويقول ضاحكا إن الحنين إلى أهله اشتد بعد سنتين تقريبا، فعاد إلى السودان وتزوج إحدى قريباته، وكانت الثمرة الأولى لزواجهما الدكتور الراحل أحمد محمود عباس؛ أول طبيب سوداني على الإطلاق يتخصص في الفحوصات الطبية من جامعة لندن سنة 1956.
للحديث بقية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق