الجمعة، 16 نوفمبر 2018

القواعد الذهبية في استخدام الواتساب (للسودانيين)



القواعد الذهبية في استخدام الواتساب (للسودانيين)

معتصم الحارث الضوّي
18 أكتوبر 2018

منذ انطلاق الواتساب سنة 2009 انتشر بسرعة هائلة ليتجاوز عدد مستخدميه المليار ونصف المليار حاليا (منتصف أكتوبر 2018)، وذلك لسهولة استخدامه وما يقدمه من خدمات تواصلية رائعة، ولكن بطبيعة الحال فإن الكثير من المستخدمين السودانيين يقعون في أخطاء أو هفوات تتصل باستخدامه –خاصة في المجموعات والتي سنركز عليها هنا- وتؤدي إلى شعور الكثيرين بالغضب نتيجة للهدر الهائل في زمنهم بسبب آخرين لا يكترثون على سبيل المثال للنقاط التالية:

1. لا تضف أحدا إلى مجموعة دون الحصول على إذن مسبق. كثيرا ما أدى ذلك لمشكلات بين أصدقاء أعزاء!
2. كن دقيقا في كلامك لكي لا يُفسر بأنه استهزاء أو سخرية.. إلخ. وإذا تطلب الأمر استخدم الوجوه المعبرة (الإيموجي) التي يفهمها كل الناس لتوصيل وجهة نظرك أو طبيعة كلامك (جاد، مازح، متسائل.. إلخ) بوضوح لا يدع مجالا للشك.
3. اعلم أن الأخبار السياسية التي ترسلها (مقتطفات عناوين الصحف مثالا) تصل إلى كل المجموعات والأشخاص الذين تعرفهم، ولذا ليس من الضروري أن تُضيع وقت الآخرين بإرسالها إلى حساباتهم الخاصة أو المجموعات التي تضمكم.
4. إذا نشرت ملفات صوتية، اكتب تعريفا مختصرا عن كل ملف. مثالا: أغنية المصير- إبراهيم عوض، لكي يقرر المتلقي ما إذا يرغب بسماعها أو يحذفها مباشرة، وكذلك الحال بالنسبة لملفات الفيديو. مما يزعج الناس كثيرا أن يجدوا مجموعة من الملفات الصوتية مرسلة إلى حساباتهم الشخصية أو المجموعات التي ينتمون إليها دون تعريف، وبالتالي يضطرون إلى الاستماع إلى كل ملف على حدة ليقرروا ما إذا كانوا يودون الاستماع إلى المادة/ الاحتفاظ بها أم لا. هذا يضيع الكثير من الوقت ويصيب الكثيرين بالغضب.
5. اختصر في الكلام بالقدر الذي يجعله واضحا، ولا تُطل! الوقت من ذهب، والناس لديها مسؤوليات عمل وأسرية. لا تخلط بين الفيسبوك الذي يدخله الناس لقضاء/ إضاعة وقت في الاطلاع على ما يهم وما لا يهم وبين الواتساب الذي يُعد وسيلة للتواصل السريع بين الناس.
6. إذا كنتً في مجموعة فلا تشغل أعضائها الآخرين بالتحيات و"الونسة" الجانبية بينك وشخص آخر. هذا تصرف فيه إضاعة لوقت الآخرين وعدم احترام لمشاعرهم ويشير إلى قلة الذوق!
7. إذا كنتَ تكتب رسالة على إحدى المجموعات، فاكتبها على دفعة واحدة، وليس مقبولا أن تكتب كل كلمة أو كلمتين في رسالة مستقلة. هذا يثير الغضب تجاهك علاوة على أنه يضيع زمن الآخرين عندما يضطرون إلى مسح رسائلك المتعددة!
8. كن لبقا وانتبه إلى مشاعر الآخرين. لا تستخدم لغة عنيفة أو مستفزة، وإنما راع قواعد اللباقة والحديث.
9. إذا كانت بينك وشخص آخر في مجموعة عداء أو خلاف، حاول قدر الإمكان تجنب توجيه الحديث المباشر إليه أو حتى "المطاعنة" لأن ذلك سيجعل الجو متوترا بالنسبة للجميع. اجعل شعارك التجاهل، وإذا ما حاول الطرف الآخر استفزازك وجرك إلى مشاحنة لفظية خاطبه بوضوح واختصار قائلا إنك تحترم زمن ومشاعر الآخرين، ولا ترغب في إدخالهم أطرافا في المشكلة بينكما. ستحظى باحترام الجميع لرجاحة عقلك وأدبك.
10. إذا كنتَ عضوا في مجموعة وأُرسلت إليها أي مادة، فلا يوجد داعي لأن ترسلها إلى شخص آخر من نفس المجموعة في رسالة خاصة، فهو بالفعل قد اطلع أو سيطلع عليها. من المفهوم أنك تود إشعاره بأنه عزيز أثير لديك، ولكن في ذلك إضاعة لوقته.
11. لا تُغرق المجموعات أو حتى أصدقائك بكثرة الرسائل، فالناس مشغولة وستشعر بالسأم منك في البدء، والذي سيتحول تدريجيا إلى عدم رضا، وربما يحذفك شخص من قائمة اتصالاته. احترم وقت ومشاعر الناس!
12. اللباقة قبل كل شيء! إذا كانت المجموعة تناقش موضوعا جادا أو حزينا فلا تخرج عليهم فجأة بنكتة! والعكس صحيح. هذا منتهى السماجة.
13. انتبه قدر الإمكان إلى أخطاء الطباعة سواء كنت تكتب بالعامية أو بالفصحى أو بخليط منهما. الهفوات الإملائية قد تكون سببا في سوء تفاهم عميق بين الناس.
14. "المكاواة" (أي المزاح الخشن) الفايتة الحد في المجموعات سبب في الزعل وربما القطيعة بين الناس. تمتع ببعض الوقار وما تخفف دمك أكثر من اللازم!
15. لا تنقل المواد خارج المجموعة إلا إذا كانت ذات صبغة عامة، مثالا أخبار عامة. لا تنقل ما يقوله فلان أو علانة خارج المجموعة. هذا خطأ كبير وشائع وأدى بالفعل إلى مشكلات اجتماعية وسياسية.. إلخ ضخمة في المجتمع السوداني.
16. تحاشى الكتابة/الصورة/الملف الصوتي/ الفيديو الذي يحتوي ألفاظ خارجة، أو مشاهد مروّعة، أو أصدرته مجموعات إرهابية.
17. وظيفة الإشراف على مجموعة ليست تشريفا وإنما تكليفا. تعامل مع هذا المقولة بوعي وإدراك ومسؤولية، ولا تستخدم الصلاحية الممنوحة لك بشكل متجبر أو غير عقلاني. لا تنس أن الناس اختارتك لإدارة المجموعة لأنهم يعتقدون أن عقلك راجح، فلا تخيب ظنهم بتصرفاتك الطفولية وعدم نضجك!
18. قبل أن تنقل مادة إلى مجموعة رجاء حارا تأكد من أنها لم تُنشر بالفعل! الآخرين ليسوا مجبورين على تحمل إضاعتك لزمنهم فقط لأنك كسول ولم تطلع على ما نُشر بالفعل على المجموعة.
19. الدنيا ليست هزلا فقط! انشر النكت والمواد المرحة، ولكن لا تنس أن تنشر أيضا مواد مفيدة للآخرين ترتفع بمستواهم الثقافي.
20. إذا كنتَ تنشر مواد دينية، فانتبه إلى عدم الإفراط في ذلك حتى لا تسبب الملل للآخرين، وتصبح أخطأت من حيث أردتَ أن تُحسن صنعا!
21. في انتقائك لمواضيع الحوار على المجموعات، حاول أن تختار مواضيع تشد انتباه كل أو معظم الأعضاء. مثالا إذا كان عدد بسيط فقط من أعضاء المجموعة مهووسين بكرة القدم، فلا تفتح الموضوع وتجعل الآخرين يشعرون بأنهم مهمشين!
22. الكلمة الطيبة صدقة. خاطب الناسب بأحب ما يريدون سمعه دون أن تقع في التملق.
23. إذا دخلت في مناقشة واحتدت -مناقشة سياسية مثلا- فاحتفظ بمساحة من الاحترام والود للشخص الذي يناقشك دون أن تقع في الإساءة اللفظية أو الجرح بكلمات خادشة للكرامة أو الحياء. إذا رأيتَ أن النقاش يتجه هذا المنحى، خاطب الشخص الآخر بعبارة مؤدبة، مثالا: يبدو أنك لن تقتنع برأيي، وأنا كذلك بصراحة لم أقتنع برأيك، ولذا فإن هذا النقاش غير مفيد. أرجو أن نتوقف عنه فورا ونحافظ على احترامنا ومودتنا كل للآخر. هذا هو التصرف الحضاري الذي يجب أن تتخذه.. من فضلك!
بهذه الطريقة تكسب احترام الشخص الآخر وكل المجموعة، كما أنك تكسب أيضا شيئا أهم بكثير.. احترامك لنفسك!


هذه دعوة للرقي والتصرف الحضاري، والله من وراء القصد.


صحافة الباذنجان: المتأنقذون مثالا



صحافة الباذنجان: المتأنقذون مثالا
معتصم الحارث الضوّي
11 فبراير 2018

في حكاية تاريخية متواترة السرد، قال الأمير الشهابي لخادمه يوماً: تميل نفسي إلى أكلة باذنجان، فقال الخادم: الباذنجان! بارك الله في الباذنجان! هو سيد المأكولات، شحم بلا لحم، سمك بلا حسك، يؤكل مقلياً ويؤكل مشويا، يؤكل كذا ويؤكل كذا.
فقال الأمير: ولكن أكلت منه قبل أيام فنالني كَرْب، فأجاب الخادم: الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان! فإنه ثقيل غليط نفّاخ.
فقال الأمير: ويحك ! تمدح الشيء وتذمُّه في وقت واحد؟! فقال الخادم: أنا خادم للأمير يا مولاي لا خادم للباذنجان، إذا قال الأمير نعم قلتُ نعم، وإذا قال لا قلتُ لا.

نعودُ إلى حاضرنا المقيت، لنكتشف أن الأنظمة الديكتاتورية التي لا يمكن وصفها بالخيال الخصب لم تُغيّر من التكتيكات كثيرا، فما زال خادم الشهابي (بمعناه العصري: الصحفي الباذنجاني)؛ متصدرا الساحة للتطبيل، حاضرا للتبرير، متأهبا للفُحش، لا يتورع للحظة عن استخدام سهامه المسمومة ليهاجم كل من يشتمّ الخلاف معه، وإن كان الشعب نفسه!

ابتلانا الله بمثل هؤلاء "المتأنقذين" من الصحفيين منذ اللحظات الأولى لغياب شمس الديمقراطية، فعلا صخبهم، وارتفعت أصواتهم الكاذبة منذ عهد صحيفة "الإنقاذ الوطني" التي ذهبت غير مأسوف على شبابها، ولم تتوقف الماكينة عن تفريخ أجيال جديدة منهم عبر ثمانية وعشرين سنة من عمر نظام القتلة واللصوص، عجّل الله في سقوطه المحتوم.

اقرأ -يا رعاك الله- بعض الأمثلة الصارخة!

(((يدهشني – وهذه شهادة عميقة وخالصة لله – تواضع وبساطة وشعبية الرئيس "البشير" بحيث إنني وكثيرين من زملائي ومعارفي في الوسط الإعلامي وغيره من الأوساط لا يستطيعون أن يتبسطوا كما يتبسط مع الناس الرئيس "البشير"!!
...
إنه زعيم استثنائي.. (شعبوي) بحق وحقيقة.. متواضع بتلقائية عجيبة.. محبوب رغم معاناة الشعب.. ومقبول بكثافة مدهشة – والقبول من الله – في زمن عزَّ فيه قبول الآخر حتى بين أفراد أسرة محدودة العدد!! ... هذا الرئيس (هبة من السماء) تماماً كما قالها الشيخ "الترابي" ...)))
الكاتب: الباذنجاني الهندي عز الدين، والمبكي المبكي في الأمر أن عنوان عموده "شهادتي لله"!!

كما كتب باذنجاني آخر (ضياء الدين بلال) في مقالة عنّونها "لماذا لم يثر الشعب؟!!" في يناير 2018 قائلا:
(((السؤال: لماذا لم يستجب الشعب السوداني رغم قسوة القرارات لدعوة الحزب الشيوعي والقوى السياسية المعارضة؟! الإجابة: للشعب السوداني ذاكرة سياسية يقظة، ومقدرة على التحليل والاستقراء؛ عرف أن الأحزاب الداعية للتظاهر لا تعنيها الأسعار، هي فقط تحاول استغلال الحدث لإسقاط النظام! وكلما تذكَّر الشعبُ أن أحزاب المعارضة تطرحُ نفسها كبديلٍ للنظام الموجود، عزف عن الخروج، واحتمل ما يعانيه في انتظار فرج قادم، عشم المضطر.)))

كما كتب باذنجاني ثالث، الطيب مصطفى، ويحلو لشعبنا تسميته بالخال الرئاسي في ديسمبر 2017، قائلا:
(((... استفتاء أجرِي في مجتمع البنات حول قانون النظام العام كشف عن أن (80)% منهن يؤيدن ذلك القانون كما أن استطلاعاً آخر للرأي بين قراء صحيفة (التيار) أثبت أن أكثر من (95)% منهم (أكدوا رغبتهم في بقاء قانون النظام العام مع إصلاح وسيلة تنفيذه))).

ما تقدم محض أمثلة فحسب، والقائمة تطول كما تعلمون!

إن قطاع الصحافة والإعلام باعتباره من أهم صُنّاع الرأي العام، وخاصة في بلد يستشري في أوصاله داء الأمية العُضال، يجدر أن تخضع منطلقاته ومناهجه وآلياته لمراجعة شاملة عندما يسقط نظام القتلة واللصوص، وهذه مهمة ملقاة منذ الآن على عاتق الصحفيين والإعلاميين والقانونيين والمعلمين، وكل من يتصل عمله المتخصص بصياغة الأمة والارتقاء بعقلها الجمعي.

جانب فائق الأهمية من ذلك هو محاسبة الباذنجانيين -بالعدل والإنصاف- على ما ارتكبوه بحق الوطن والمواطن من جرائم معنوية وفكرية بشعة، والتأسيس لمنظومة صحفية وإعلامية على نهج سليم يُسهم في نهضة الوطن إلى المرتبة والمكانة التي ننشدها جميعا.

إن ذاكرة الشعب السوداني لا تنسى، والتوثيق لكل ترهات الباذنجانيين وأكاذيبهم عبر العقود الماضية لم يتوقف للحظة، وساعة الحساب العادل آتية لا ريب فيها، وحينها سيندم أصحاب "شهادتي لإبليس" حين لا ينفع الندم!


بعد إسدال الستار
قيل لإعرابي: ما تقول في الباذنجان؟ فقال: أذناب المحاجم وبطون العقارب وبذور الزقّوم، فقالوا له: إنه يُحشى باللحم فيكون طيباً، فأجاب: لو حُشي بالتقوى والمغفرة ما أفلح!


هل ثمة حاجة لليبرالية في واقعنا العربي




هل ثمة حاجة لليبرالية في واقعنا العربي!
معتصم الحارث الضوّي
23 يناير 2018


يُنظر إلى الليبرالية في الوطن العربي نظرة ريبة وتشكيك، وأنها منظومة فكرية غير ذات جدوى.
هل يكفي هذا تبريرا لصيغة التعجب في العنوان؟

دلالة المصطلح؛ "الليبرالية"، مشتقة من liberal، أي "متحرر" باللغة الإنكليزية؛ المذهب الفكري الذي يمجد الحرية الفردية، ويطرح نظرية مفادها أن وظيفة الدولة حماية حريات الفرد المطلقة بالحد الأقصى، ولذا تقول أدبياته الكلاسيكية -في المقابل- بالتضييق على السلطة والتقليل من دائرة نفوذها، وإبعادها عن الاقتصاد قدر الإمكان، ثم يتجاوز ذلك إلى مرحلة خطيرة تجعل الفرد في مقابل الإله.

تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية "إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني".

كما يرى جون ستيورت مل، الفيلسوف الإنكليزي بخصوص المعتقدات الدينية: "لا أقول إن الاعتقاد بصـدق العقيـدة مـدعاة للعصـمة، بل ما أقولـه إن ادعـاء العصـمة معنـاه إجبـار الغـير علـى قبـول مـا نـراه في العقيـدة دون أن نسـمع رأيه فيها، ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".

نشأت الليبرالية عبر قرون باجتهادات للعديد من المفكرين، على رأسهم، حسب الترتيب الزمني؛ جون لوك، وجان جاك روسو، وجون ستيورت مل، وفي الليبرالية الاقتصادية يرجع الدور الأعظم في التأسيس إلى آدم سميث، وباعتبارها منظومة فكرية تبلورت عبر قرون من الزمان، وإسهامات للكثيرين، فقد امتد نطاقها إلى مختلف المجالات؛ الدين والاجتماع والفكر والاقتصاد والسياسة، وإن كان حجر الزاوية لها ونقطة الالتقاء بين جميع منظّريها الإيمان بالحرية الفردية المطلقة، مع مراعاة عدم الاعتداء على حريات الآخرين.

على الصعيد العربي المحض، ثمة اختلاف بين المؤرخين بخصوص مدى تأثر عبد الرحمن الكواكبي بالتيار الليبرالي الغربي، ولكن كاتب هذه السطور يميل إلى الرأي الذي يشير إلى أن فكره كان أصيلا غير متأثر بالليبرالية، بل إن عوامل منهجية وشخصية قد أدت إلى تطويره لأفكاره التي صاغت الفكر العربي الحديث بشكل كبير، وخاصة تنظيره الرائع عن الاستبداد، ودفاعه عن الحرية في مقابل الطغيان باعتبار السبب الرئيس في التخلف الذي يستشري في جسد الأمة.

كان لجمال الدين الأسد آبادي (المعروف بالأفغاني)، الزعيم الماسوني الكبير، دور رئيس في التأسيس الحقيقي لليبرالية في الوطن العربي، فقد صدح بآراء تتسربل حُلة الليبرالية، ولكنها في غاية التطرف الفكري ضد الإسلام، ولذا فإن تلميذه النجيب، محمد عبده، سعى إلى تقديم آراء توفيقية معتدلة غير مصادمة للمجتمع المحافظ، ولكن محاولاته في هذا الصعيد لم تسفر عن النجاح المنشود، وذلك بخلاف نجاحات أخرى حققها على صعيد تطوير الخطاب الديني بنزاعة حداثية ملحوظة.

لكن الدور الأعظم في تجذير الفكر الليبرالي كان لأحد طلبة محمد عبده؛ أحمد لطفي السيد، والذي تحولت جريدته "الجريدة" الصادرة عام 1907م، إلى مدرسة دعوية للفكر الليبرالي، وعلى صفحاتها برزت أسماء أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، والشيخ مصطفى عبد الرازق.

لجأ هذا التيار إلى نشر الفكرة عبر العمل الثقافي والفكري، وأيضا عبر المساهمة الفاعلة في أجهزة الدولة، فتولى أحمد لطفي السيد وغيره مناصب رفيعة في الوزارات والجامعة المصرية، وكان لهم بصمات ضخمة لا يمكن نكرانها.

شهد هذا التيار الليبرالي، والذي اتسم معظم عطائه الفكري بالعداء الصريح، أو على الأقل عدم تناول الإسلام، تراجعا ملحوظا بدء من النصف الثاني من الأربعينيات من القرن المنصرم، بعد أن علا كعب الفكر القومي، وكانت أدبياته قد ركزت منذ العشرينيات على النقد الحاد للنزعة التغريبية الحادة التي اتسمت بها الأفكار الليبرالية المطروحة في الدول العربية.

رغم ذلك، لم يتوقف التأثير الفاعل للفكر الليبرالي، فقد كانت صحيفتا "النهار" و "الحياة" اللبنانيتين على سبيل المثال، تنشران خلال الفترات اللاحقة، وبشكل دوري، ترجمات عن الفكر الليبرالي الغربي، وتستعين بها لمهاجمة الفكر القومي، والتقدمي بشكل عام، في خدمة واضحة للمشروع الغربي المعادي للتحرر العربي، والمعادي للمعسكر الشرقي.

خبا نجم الليبرالية العربية، ولكن جذوتها لم تنطفئ، فقد ظهرت إلى الوجود بقوة منذ نهاية السبعينيات، إثر التدهور الكبير الذي عاناه المشروع القومي والماركسي أيضا، فكان لا بد للقوى الغربية من طرح أكثر من بديل؛ الحركات الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، والحركة الليبرالية، فأصبحتا رأسي التنين الذي يحاول التهام الأمة العربية.

لكن تلك النسخة الجديدة من الليبرالية العربية كانت -كسابقتها- مجرد محاولة مشوهة لاستنساخ التجربة الغربية، وإسقاطها على واقعنا عظيم الاختلاف، والواقع أنه يصعب، بشكل مطلق، الحديث عن وجود فكر عربي ليبرالي، حيث لم ينتج نظرية معرفية متكاملة، أو آليات منهجية لتحليل الواقع العربي الشائك، بل هو نسخة هزيلة -تدعي الأصالة- من منظومة فكرية غربية نشأت في ظروف زمكانية واجتماعية تختلف أيما اختلاف عن واقعنا.

أما التيار الأحدث عربيا لليبرالية، المسمى "الليبراليون الجدد"، ويتزعمه شاكر النابلسي وسيار الجميل.. إلخ، فلم يتوقف عند الطروحات القديمة، بل أضاف إليها الكثير من الملفوظ عربيا وإسلاميا وعالمثالثيا، مثال الانقياد المطلق للولايات  المتحدة، والتبرير لجبروتها وتعدياتها على القانون الدولي، وإيجاد المسوغات لإجرام العدو الصهيوني، والدعوى الصريحة للحرية الجنسية المطلقة، والقائمة تطول.

أدى الزواج الكاثوليكي ما بين السياسة والاقتصاد في الليبرالية الغربية بنسختها الأحدث إلى نشوء الرأسمالية المتوحشة التي تجلت في أبشع صورها لاحقا في العولمة، وشعارها المقيت: ما يفرزه السوق صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح.

هل ثمة حاجة للقبول بذلك في واقع عربي؟
لا بالطبع.

لكن الإجابة على التساؤل المحوري في عنوان المقالة هي الإيجاب، فثمة حاجة لفكر ليبرالي مُعقلن، يستلهم تراكم الفكر العالمي والإسهامات العربية، ويتأسس على قيم ومنطلقات فكرية وحركية تراعي الخصوصية العربية والإسلامية، وتتفاعل مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دولنا المأزومة بمنظور عقلاني، وتطرح من المبادئ والأُطر العامة ما يجعلها جاذبة غير مُنفّرة، وصالحة غير طالحة، ووطنية/ قومية غير متعولمة، وإثراء وليس حربا على ثوابتنا الأصيلة.


اللغة العربية بين الرضاب والصعاب



3 مارس 2018

في الثالث من سبتمبر 2016، وضعتُ استطلاعا للرأي على حسابي في تويتر:
هل يمكن أن يفهم طلاب المدارس الأجنبية في الدول العربية شطر البيت التالي "اطفئ لظى القلب بشهد الرضاب"، فأجاب 1614 مشاركا.
9% قالوا نعم
75% أجابوا بلا
16% قالوا إنني متحامل عليهم

أما آراء السبع وثلاثين شخصا الذين علّقوا فاتفق معظمها بأن معظم طلاب المدارس، بل والجامعات، وبل وكليات اللغة العربية، لن يفهموا هذا البيت الرائع من قصيدة "رباعيات الخيام" لعمر الخيّام، بترجمة أحمد رامي، وغناء السيدة أم كلثوم.

أرجع البعض السبب إلى ضعف المدارس، وقال آخرون إن السبب هو اختفاء المُعلم الذي يعشق اللغة، وأشار نفرٌ آخر إلى ضعف المناهج التي تُحبّب التلميذ بلغته، ولكن الجامع في التعليقات كان السخرية المُترعة بالألم، والضحك الأشبه بالبكاء على مصير اللغة العربية التي تغرّبت وتفرنجت.

ما أسباب الظاهرة المُفجعة التي تفاقمت رغم التحذيرات التي أطلقها الحادبون من أمثال حافظ إبراهيم في قصيدته الخالدة "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها":
وسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفْظًا وغايًة             وما ضِقْتُ عن آيٍ بهِ وعِظاتِ
فكيف أَضِيقُ اليومَ عن وَصْفِ آلَةٍ               وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البَحْرُ في أَحْشائِه الدُّرُّ كامِنٌ         فهل سَأَلوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتِي

ترى، هل كانت صرخته سُدى تذروه الرياح؟!

أم أن عوامل كثر تضافرت لتنحدر لغتنا الرؤوم إلى هذا الدرك، فيشيرُ أحدهم -تعقيبا على الاستطلاع- بأن هذا الأسلوب قد أضحى من وحشي اللغة!

ما أسباب الضعف: ركاكة المناهج، وجهل المُعلمين باللغة، وطرائق التدريس المتخلفة، والاستخفاف في وسائل الإعلام بالفصحى والإعلاء من شأن اللهجات العامية، أم استشراء المدارس الأجنبية كالنار في الهشيم دون تعقّل لآثارها المدمرة- هي العوامل التي أنتجت هذا الجيل الذي لا يكتفي بالجهل بالعربية، بل ويتفاخر بذلك!

هل أدت المبادرات المحمودة التي ظهرت مؤخرا: تخصيص يوم الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، ومبادرة "أصحابنا" في لبنان، ومبادرة "لغتي" في الشارقة، ومبادرة "المستكشف" لصوغ أكبر موسوعة عربية معاصرة، ومبادرات عديدة على اليوتيوب مثال "العنادل"، وغيرها من الجوائز والمبادرات الفردية والمؤسسية الطموحة إلى تغيير إيجابي في خريطة الجدب اللغوي التي نعيشها؟

ترى، هل سنشهد تغيّرا قريبا يجعل السواد الأعظم لا يعاني الصعاب في فهم "الرضاب"؟!

أتمنى ذلك!