هل ثمة حاجة لليبرالية في واقعنا العربي!
معتصم الحارث الضوّي
23 يناير 2018
يُنظر إلى الليبرالية في الوطن العربي نظرة ريبة وتشكيك، وأنها
منظومة فكرية غير ذات جدوى.
هل يكفي هذا تبريرا لصيغة التعجب في العنوان؟
دلالة المصطلح؛ "الليبرالية"، مشتقة من liberal، أي "متحرر" باللغة
الإنكليزية؛ المذهب الفكري الذي يمجد الحرية الفردية، ويطرح نظرية مفادها أن وظيفة
الدولة حماية حريات الفرد المطلقة بالحد الأقصى، ولذا تقول أدبياته الكلاسيكية -في
المقابل- بالتضييق على السلطة والتقليل من دائرة نفوذها، وإبعادها عن الاقتصاد قدر
الإمكان، ثم يتجاوز ذلك إلى مرحلة خطيرة تجعل الفرد في مقابل الإله.
تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية "إن النظام الليبرالي
الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط
الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا
أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني".
كما يرى جون ستيورت مل، الفيلسوف الإنكليزي بخصوص المعتقدات
الدينية: "لا أقول إن الاعتقاد بصـدق العقيـدة مـدعاة للعصـمة، بل ما أقولـه
إن ادعـاء العصـمة معنـاه إجبـار الغـير علـى قبـول مـا نـراه في العقيـدة دون أن
نسـمع رأيه فيها، ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".
نشأت الليبرالية عبر قرون باجتهادات للعديد من
المفكرين، على رأسهم، حسب الترتيب الزمني؛ جون لوك، وجان جاك روسو، وجون ستيورت مل، وفي الليبرالية
الاقتصادية يرجع الدور الأعظم في التأسيس إلى آدم سميث، وباعتبارها منظومة فكرية تبلورت عبر قرون من الزمان، وإسهامات
للكثيرين، فقد امتد نطاقها إلى مختلف المجالات؛ الدين والاجتماع والفكر والاقتصاد
والسياسة، وإن كان حجر الزاوية لها ونقطة الالتقاء بين جميع منظّريها الإيمان بالحرية
الفردية المطلقة، مع مراعاة عدم الاعتداء على حريات الآخرين.
على الصعيد العربي المحض، ثمة اختلاف بين
المؤرخين بخصوص مدى تأثر عبد الرحمن الكواكبي بالتيار الليبرالي الغربي، ولكن كاتب
هذه السطور يميل إلى الرأي الذي يشير إلى أن فكره كان أصيلا غير متأثر بالليبرالية،
بل إن عوامل منهجية وشخصية قد أدت إلى تطويره لأفكاره التي صاغت الفكر العربي
الحديث بشكل كبير، وخاصة تنظيره الرائع عن الاستبداد، ودفاعه عن الحرية في مقابل
الطغيان باعتبار السبب الرئيس في التخلف الذي يستشري في جسد الأمة.
كان لجمال الدين الأسد آبادي (المعروف
بالأفغاني)، الزعيم الماسوني الكبير، دور رئيس في التأسيس الحقيقي لليبرالية في
الوطن العربي، فقد صدح بآراء تتسربل حُلة الليبرالية، ولكنها في غاية التطرف
الفكري ضد الإسلام، ولذا فإن تلميذه النجيب، محمد عبده، سعى إلى تقديم آراء
توفيقية معتدلة غير مصادمة للمجتمع المحافظ، ولكن محاولاته في هذا الصعيد لم تسفر
عن النجاح المنشود، وذلك بخلاف نجاحات أخرى حققها على صعيد تطوير الخطاب الديني
بنزاعة حداثية ملحوظة.
لكن الدور الأعظم في تجذير الفكر الليبرالي كان
لأحد طلبة محمد عبده؛ أحمد لطفي السيد، والذي تحولت جريدته "الجريدة" الصادرة عام 1907م، إلى مدرسة دعوية للفكر
الليبرالي، وعلى صفحاتها برزت أسماء أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد
حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، والشيخ مصطفى عبد الرازق.
لجأ هذا التيار إلى نشر الفكرة عبر العمل الثقافي والفكري، وأيضا عبر
المساهمة الفاعلة في أجهزة الدولة، فتولى أحمد لطفي السيد وغيره مناصب رفيعة في
الوزارات والجامعة المصرية، وكان لهم بصمات ضخمة لا يمكن نكرانها.
شهد هذا التيار الليبرالي، والذي اتسم معظم عطائه الفكري بالعداء
الصريح، أو على الأقل عدم تناول الإسلام، تراجعا ملحوظا بدء من النصف الثاني من
الأربعينيات من القرن المنصرم، بعد أن علا كعب الفكر القومي، وكانت أدبياته قد ركزت
منذ العشرينيات على النقد الحاد للنزعة التغريبية الحادة التي اتسمت بها الأفكار
الليبرالية المطروحة في الدول العربية.
رغم ذلك، لم يتوقف التأثير الفاعل للفكر الليبرالي، فقد كانت صحيفتا
"النهار" و "الحياة" اللبنانيتين على سبيل المثال، تنشران
خلال الفترات اللاحقة، وبشكل دوري، ترجمات عن الفكر الليبرالي الغربي، وتستعين بها
لمهاجمة الفكر القومي، والتقدمي بشكل عام، في خدمة واضحة للمشروع الغربي المعادي
للتحرر العربي، والمعادي للمعسكر الشرقي.
خبا نجم الليبرالية العربية، ولكن جذوتها لم تنطفئ، فقد ظهرت إلى
الوجود بقوة منذ نهاية السبعينيات، إثر التدهور الكبير الذي عاناه المشروع القومي
والماركسي أيضا، فكان لا بد للقوى الغربية من طرح أكثر من بديل؛ الحركات
الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، والحركة الليبرالية، فأصبحتا رأسي التنين
الذي يحاول التهام الأمة العربية.
لكن تلك النسخة الجديدة من الليبرالية العربية كانت -كسابقتها- مجرد محاولة مشوهة لاستنساخ
التجربة الغربية، وإسقاطها على واقعنا عظيم الاختلاف، والواقع أنه يصعب، بشكل
مطلق، الحديث عن وجود فكر عربي ليبرالي، حيث لم ينتج نظرية معرفية متكاملة، أو آليات
منهجية لتحليل الواقع العربي الشائك، بل هو نسخة هزيلة -تدعي الأصالة- من منظومة
فكرية غربية نشأت في ظروف زمكانية واجتماعية تختلف أيما اختلاف عن واقعنا.
أما التيار الأحدث عربيا لليبرالية، المسمى
"الليبراليون الجدد"، ويتزعمه شاكر النابلسي وسيار الجميل.. إلخ، فلم
يتوقف عند الطروحات القديمة، بل أضاف إليها الكثير من الملفوظ عربيا وإسلاميا
وعالمثالثيا، مثال الانقياد المطلق للولايات
المتحدة، والتبرير لجبروتها وتعدياتها على القانون الدولي، وإيجاد المسوغات
لإجرام العدو الصهيوني، والدعوى الصريحة للحرية الجنسية المطلقة، والقائمة تطول.
أدى الزواج الكاثوليكي ما بين السياسة والاقتصاد في
الليبرالية الغربية بنسختها الأحدث إلى نشوء الرأسمالية المتوحشة التي تجلت في
أبشع صورها لاحقا في العولمة، وشعارها المقيت: ما يفرزه السوق
صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح.
هل ثمة حاجة للقبول بذلك في واقع عربي؟
لا بالطبع.
لكن الإجابة على التساؤل المحوري في عنوان المقالة
هي الإيجاب، فثمة حاجة لفكر ليبرالي مُعقلن، يستلهم تراكم الفكر العالمي
والإسهامات العربية، ويتأسس على قيم ومنطلقات فكرية وحركية تراعي الخصوصية العربية
والإسلامية، وتتفاعل مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دولنا
المأزومة بمنظور عقلاني، وتطرح من المبادئ والأُطر العامة ما يجعلها جاذبة غير
مُنفّرة، وصالحة غير طالحة، ووطنية/ قومية غير متعولمة، وإثراء وليس حربا على ثوابتنا
الأصيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق