بل يموتون ألف مرة!
المجلة العربية
12 يونيو 2017
سمعتُ ذات قديم طرفة عن رجل عربي زار سويسرا، ودُهش للغاية عندما رأى شواهد القبور تحملُ عبارات من نوع: عاش لشهرين، أو ثلاثة أشهر، أو سنة.. إلخ، فسأل مرافقه عن ذلك، فأجابه: نجمعُ اللحظات السعيدة التي عاشها المرء ونكتبُها على الشاهد، فوجَمَ طويلاً ثم قال: عندما أموتُ اكتبوا على قبري: عباس من بطن أمه إلى القبر مباشرة!
حال صديقنا عباس، أو أياً كان اسمه، أشبه بالمبدعين في الوطن العربي، فمجموع اللحظات السعيدة التي يقضيها الفرد منهم لا يزن جناح بعوضة، ولا يعدل إلا ثوانٍ تُعدُ على أصابع يد واحدة!
فلننظر إلى البداية، إحساس جموح بالعدالة الاجتماعية تتبلور ملامحه جلية في سني الصبا المتأخرة، وروح وثّابة لا ترضى القهر، وتقارن بين الواقع المرير وحال الأمم الأخرى لتجد الفرق كوكبياً شاسعاً، وشعور متنامٍ بالقهر بشتى ألوانه، داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع، وليس آخراً من السلطة، وهذا لعمري يزرع في القلب شقاء حنظلاً، وجحيماً مستعراً.
تضغط تلك المشاعر الجيّاشة على أعصاب المبدع في تصاعد محموم، ثم تنفجر في الوقت المناسب لهطولها شعراً ونثراً وفناً تشكيلياً ودراما وغيرها من ضروب الجمال، وهنا يثقب المبدع قشرة صلدة للمجتمع الذي يتنفس محافظة، فتُجنّد ضده المؤسسات العتيدة الرافضة لأي تغيير، وإن كانت هي ذاتها، في بعض الأحيان، تهاجم الوضع القائم!
الحرب شعواء، يستعين فيها المبدع بطُهر أفكاره، ونُبل مبادئه، وسمو أخلاقه أسلحة، في حين يلجأ الخصم إلى إشانة السمعة، وقطع سُبل العيش، واغتيال الشخصية، وغيرها من الوسائل في ترسانته الخسيسة التي لا تعرف الحدود!
لكن طبيعة المعركة تختلف عندما يعلو صوت المبدع، ويتحول من مجرد قلم أو ريشة مغمورة إلى نجم ذائع الصيت، فحينها تبدأ أساليب المراوغة ما بين الإقناع المتدثر رداء الفضيلة والتهديد المتسربل ثوب النصح، والترهيب بالويل والثبور وعظائم الأمور، والترغيب بالمناصب والشهرة والمال الوفير.
يسقط المبدع حينذاك في مثلث شيطاني، فزمنه يُصابُ بطعنة نجلاء ما بين تدفق العطاء لطرح رؤيته الإبداعية، ومكافحة الترهيب، ومقاومة الترغيب.
رغم تلك المحنة التي تصيب المبدع، فإن قوى النجدة تهب لعونه، فكون الفكرة قد بدأت تستشري في أوصال المجتمع البالي، وبخاصة فئة الشباب، يعني أن قوى النور، ستلبي النداء لتنافح عن المبدع، مقاتلين بلا أجر، دعماً ودفاعاً عن بروميثيوس جديد، سرق النار من كهنة الظلام لينثرها ضياء في صدور العقلاء.
لكن تلك القوى عادة ضعيفة ومُحاربَةٌ بلا هوادة، فترى السائرين في الدرب يلتحقون زرافات ووحداناً، ثم يغادرون، ثم يعودون، بحسب ضغط المؤسسة المتحجرة عليهم، وهذا مما يزيد المبدع ألماً، ويزرع في نفسه من الأسى مساحات جرداء.
رأيناهم يذرفون دموع التماسيح عندما تجمّد الشاعر والفنان التشكيلي السوداني، محمد حسين بهنس، على الأرصفة في القاهرة، وحينها تداعى القوم يستمطرون الرحمة على مبدع أصيل، ذرف فنه وعطاءه بلا مقابل، ولكن الحقيقة أن الموت كان أرحم به منّا.. أجمعين!
لا تظنن يا عزيزي القارئ أن الظاهرة حديثة. اقفز إلى الوراء بضع عقود، لتسر خلف سيد درويش، فنان الشعب، كما يلقب في مصر، والمبدع المجدد للغناء العربي الحديث، والذي لم يحضر جنازته سوى أربعة أشخاص فحسب، فلعلك تكون أنت الخامس!
أو انظر إلى جثمان مصطفى المنفلوطي، أمير البيان العربي، محمولاً على الأعناق، وقد توفي يوم إطلاق النار على سعد زغلول، فاتجه الناس إلى المظاهرات العارمة، وخلت جنازة المنفلوطي من المشيعين!
مأساة متجددة أن يعيش المبدع حياة قلقة، متخمة بالمعارك الضارية ذوداً عن فنه وإبداعه، ولا يلقى التقدير المستحق في حياته أو مماته.
يموت المبدع في حياته ألف مرة، المرة تلو المرة، إثر الضربات المتلاحقة، ولا حول له ولا قوة من تعنت المجتمع، ومطرقة السلطة، وسندان الأقربين السادرين في غيهم في معظم الأحيان.
ألف مرة يموت، وهو يرى أصحاب العقول الخاملة، وأرباع الموهوبين، في صدر الموقف وعلية القوم، بينما لا يجد المال لطباعة مؤلفاته، أو إقامة معرض للوحاته، أو حتى شراء بنزين لسيارته المتهالكة!
ألف مرة يموت، وقافلة الظلام تغذ السير لا تلوي على شيء، والعروي والجابري ومالك بن نبي يتوارون إلى الصفوف الخلفية، لتحل في الصدارة ثقافات تتخذ من (الفتوحات المكية)، و(شمس المعارف الكبرى)، و(تحفة العروس ونزهة النفوس) أُمّهات كتبها ومراجعها المأثورة.
ألف مرة يموت، ولحظات السعادة التي يمنحها العطاء، وتجلبها محبة الجمهور، تُجهض في فيضان المنغصات، ولا يبقى من التقدير إلا كلمة مُرتجلة تُقال في تأبين، أو مقالة تُكتب على عجل للحاق بزمن طباعة الجريدة!
قبل موته البيولوجي، يموت المبدع لدينا.. ألف مرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق